ثالثاً: الظالم لنفسه: وهو الذي يترك بعض الواجبات -ولا نقول كلها- ويرتكب بعض المنهيات وبعض المحرمات.
فهذه هي الأقسام الثلاثة،وهي في المؤمنين وفي أهل التوحيد، فكيف يكون أمنهم واهتداؤهم؟
حتى نربط هذه الآيات بآية الأنعام التي هي موضوع الباب: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82].
نقول: أكملهم أمناً واهتداءً هم: السابقون، ثم المقتصد، وأما الظالم لنفسه فهو على خطر، وإن كان له أمن، ونجزم نحن أنه سيحصل له بإذن الله، أما ما عدا ذلك فهو تحت مشيئة الله، فالأمن المؤكد له بما أنه موحد، والكلام هذا عن الموحد الذي اجتنب الشرك، أنه مجزوم ومقطوع له بأنه لا يخلد في النار إن دخلها، ولكن هل يأمن أول الأمر؟ وهل يأمن يوم الفزع الأكبر؟ وهل يأمن عندما تنشر الصحف؟ وهل يأمن عند عبور الجسر؟
كله هذا الله أعلم به، فهو تحت مشيئة الله، لكن الشيء الذي نجزم به؛ أنه لا يخلد في النار، ولا يمكن أن أحداً من أهل التوحيد يخلد في النار -بإذن الله- إن دخلها.
فهذا هو فضل التوحيد، فالباب: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وهذا فضل عظيم، وهو أقل الفضل الذي هو مقطوع به -وما قبله قد يأتي إن شاء الله أيضاً- لأن المؤمنين الموحدين لا يخلدون أبداً في النار، بل من دخلها يخرج بشفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبشفاعة الشافعين من الملائكة، وعباد الله الصالحين، والشهداء، وكل من أذن الله له أن يشفع، حيث يأمر الله تبارك وتعالى الملائكة أن يخرجوا من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، ثم مرة ثانية يأمرهم أن يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وفي المرة الثالثة يُخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان.
وهؤلاء -نسأل الله العفو والعافية- هم أهل أمن في النهاية، ولكن بعد سكرات الموت، وبعد الحساب الشديد في القبر، وبعد الموقف يوم القيامة والأهوال، وبعد عبور الجسر والوقوع والسقوط منه في النار -نسأل الله العفو والعافية- بعد آماد الله يعلمها، وهذا خطر عظيم ولا شك؛ حتى لا نستهين بالذنوب.
لكن نقول: التوحيد يظل له فضله وأهميته حيث أنهم في النهاية يخرجون.
وهنا سؤال وهو: كيف يعرفهم الشفعاء، إذا أذن الله سبحانه للشافعين أن يشفعوا، فيخرجون أهل النار الموحدين منها، والنار فيها الكفار وفيها العصاة من الموحدين، فكيف يميز المؤمن من الكافر؟
بيّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا فقال: {يعرفونهم بأثر السجود} فأثر السجود واضح في جباههم، وهذا يعني أن الذي لا يصلي لا ينجو، فعلى هذا الحديث وأدلة أخرى كثيرة -لكن نأخذ العبرة الآن من هذا الحديث- يكون تارك الصلاة الذي لا يصلي ولا يسجد لله، من أين له أثر للسجود؟ لا أثر فيه للسجود، إذاً فلا يعرف، ولا يشفع له الشافعون، وقد قال الله حاكياً مقالهم في النار: ((قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))[المدثر:43-48] نسأل الله العفو والعافية.
فتارك الصلاة ليس بمسلم، وليس بمؤمن، ولا تنفعه شفاعة، فتارك الصلاة إذاً داخل فيمن لبس وغطى وشاب إيمانه بظلم، بمعنى الظلم الأكبر، وهو الكفر بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا ليس له أمن ولا اهتداء مطلقاً، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فهو مثل فرعون وهامان، ومثل عباد الأصنام، وعباد الطواغيت، مثله مثلهم، سواء بسواء، لا علامة للسجود لديه ولا أثر، ولذلك فإنه يُحرم من شفاعة الشافعين.
أما أهل الشفاعة فهم أصحاب الذنوب التي دون ذلك، وإن كانوا متوعدين بالنار، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يشفِّع فيهم، ما داموا من أهل التوحيد، ولم يصل بهم الذنب إلى ترك الصلاة أو إلى الكفر، وذلك كالذين توعدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنار -في القرآن مثلاً أو في الأحاديث- من أصحاب الذنوب والمعاصي،كقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً)) [النساء:10].
وكذلك ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)) [الفرقان:68-69] إذاً الزنا من الذنوب المتوعد عليها بالنار وقتل النفس وشرب الخمر إلا من تاب، فنقول: من تاب من شرك أكبر، أو شرك أصغر، أو بدعة، أو معصية، ولو كانت ذنوبه تبلغ عنان السماء، أو مثل الجبال، إذا تاب، تاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه وغفر له، ولقي الله كمن لا ذنب له، لكن كلامنا فيمن يلقى الله وهو بهذه الحالة بدون توبة، فهؤلاء هم الذين يكونون من أصحاب الوعيد، بمعنى أنه متوعد بها، وقد يدخل وقد لا يدخل.
فمثلاً: إنسان أكل مال يتيم، أو زنى، أو سرق، أو شرب الخمر، أو فعل أمراً موبقاً -كبيرة من الكبائر- فنقول: فاعل هذا الذنب متوعد بالنار، وهو من أهل الوعيد، لكن لا نقطع أو نجزم بأنه سيدخل النار، ولا نقول عن رجل معين: إن الله لا يغفر له، وإنه لا بد أن يدخل النار.
لأن الأعمال يوم القيامة توزن عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونحن لا ندري لعل هذا الإنسان له أعمال صالحة لا نعلمها، فنحن نعلم أنه فاعل لهذا الذنب، ولذلك نعظه ونخوفه بعذاب الله من هذا الذنب، وإذا عُلم أنه مات وهو مصر على هذا الذنب نخاف عليه منه، ونقول: إنه داخل في هذا الوعيد، لكن لا نعلم الحقيقة، لأنه قد يكون له صدقة لا نعلمها، وقد يكون له أمر بمعروف ونهي عن منكر نحن لا نعلمه، وقد يكون له محافظة على الصلاة... وهكذا.
لأن الإنسان تجتمع فيه الطاعة والمعصية، وهذه من عجائب الإنسان.
فرب إنسان مقيم لحدود الله، وفرائض الله، ومشتغل بطاعة الله، ويفعل فاحشة وموبقة -نسأل الله العفو والعافية- وهذا واقع.
ورب إنسان وقعت منه هذه الفاحشة، واشتهر بها، وعرف عند الناس بها، وله طاعة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعلمها الناس، يتقرب بها ويعملها، فربما في الميزان ترجح هذه الطاعة بتلك المعصية، مثل البغي الزانية من بني إسرائيل التي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصتها، والتي غفر الله لها لأنها سقت الكلب، ففي كل ذات كبد رطبة أجر، فأي مخلوق وأي حيوان له كبد؛ حتى وإن كان الكلب فيه أجر الصدقة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، فهذه بغي زانية، لكنها لما رأت الكلب يلهث، أخذت خفها وملأته بالماء وسقته فشكر الله لها وغفر لها، سبحان الله!
فالزنا لا تخفى شناعته وبشاعته: ((إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً))[النساء:22] لكن مع الإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصدقة أو باستغفار أو بذكر أو بعمل من أعمال الخير، قد لا يلقي له الإنسان بالاً، أو كلمة حق قد لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وتكفر عنه من الخطايا والذنوب ما لا يخطر له على بال، كما إن الإنسان قد يقول الكلمة من سخط الله، ومن غضب الله، لا يلقي لها بالاً كاستهزاء بالدين، أو استهزاء بأهل الدين تهوي به في النار سبعين خريفاً -نسأل الله العفو والعافية-.
فنقول: مذهب أهل السنة والجماعة أنهم يرجون للمحسن الثواب، ويخافون على المذنب والمسيء العقاب، لكن لا يقطعون لهذا بالجنة ولا يقطعون لهذا بالنار، إلا من جاء الدليل صريحاً فيه أنه من أهل النار، فنقطع له بذلك، أما الباقون فنرجو للمحسنين منهم الثواب، ونخاف على المسيئين منهم العقاب.
فإذاً عرفنا أن هؤلاء الثلاثة: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82] فهؤلاء لهم نصيب من الأمن إن شاء الله، والفضل كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن وفقهم للتوحيد، وحصول الأمن إما كلياً أو جزئياً سببه التوحيد، وأنهم ليسوا من أهل الشرك.
أما من كان من أهل الشرك، وأشرك بالله الشرك الأكبر، فهذا باتفاق أهل السنة أنه لا أمن له ولا اهتداء.